الأحد, 18 تشرين2/نوفمبر 2012 22:55

مواجهة الحرب النفسية وقهر الإرادة

كتبه  د. لطفي الشربيني
قييم هذا الموضوع
(0 أصوات)

تمضي الأيام ونحن نتابع الأحداث .. ونجد أنفسنا في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي لانفكر بأي شأن لنا مثلما يشغلنا ما يحدث مؤخراً علي أرض العراق ، وفي مقدمةأولويات اهتمامنا ما يتعرض له إخوان لنا هناك من قمعوقهر وكسر للإرادة باستخدام وسائل الإذلال من جانب الاحتلال ضد المقاومة.. وفي المرحلة الحالية التي كثر  

فيها الحديث عن وسائل التعذيب والقهر وامتهان الإنسانية والإذلال بعد أن تم كشف الصور التي أثارت الكثير من المشاعر المختلفة سواء في الدول العربية أو الإسلامية أو في الغرب فإن هناك المثير من التساؤلات تدور بالأذهان ونطرح هنا بعضاً منها :


1- الجرائم والتجاوزات وصور التعذيب البشعة التي تابعها العالم من خلال وسائل الأعلام وأثارت كل هذه المشاعر ..لماذا تم الكشف عنها من جانب الاحتلال في هذا التوقيت على وجه الخصوص ؟
2- التناقض والتعارض بين الشعارات التي يرفعها الاحتلال في مقدمتها الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وبين مايحدث في الواقع من انتهاكات صريحة من خلال التعذيب المنهجي المنتظم داخل المعتقلات وخارجها من خلال الاستخدام المفرط للقوة..هل يعني سقوط المفاهيم القديمة للعالم المتحضر والحلم الأمريكي وظهور الوجه القبيح للعدوان والاحتلال من الجانب القوى الكبرى ؟
3- رد الفعل على مستوي العالم العربي والإسلامي الذي جاء متواضعاً للغاية ويعبر عن السلبية  والإحباط وعدم المبالاة ،ورد الفعل الأقوى جاء من جانب جهات أخرى في الغرب على مشاهد التعذيب والقسوة والوحشية .. هل يعني أن العرب والمسلمين ومن يمثلهم من جهات شعبية ورسمية في أنحاء العالم لم تعد لديهم القدرة على التحرك والتفاعل مع الأحداث ؟ ..
4- تشير التقارير إلى أن التعذيب كما يمارس بالصورة التي يتحدث عنها الأعلام مؤخراً من جانب الاحتلال في العراق يتم أيضا بصورة منتظمة في كل البلدان العربية والإسلامية تقريباً ولا يتحدث عنه أحد .. وبالتالي فإن رد الفعل السلبي  الهزيل قد يبرر بأن الدافع إليه هو الحكمة أو التخاذل أو ربما  مشاعر اليأس والإحباط نتيجة لكسر الإرادة ؟


   وإذا نظرنا إلى ما يحدث في الأراضي العراقية المحتلة والذي تقوم وسائل الإعلام بنقله إلى كل أرجاء العالم وما يتضمنه من مشاهد عنف ودمار قاسية تثير المشاعر لكل من يشاهدها وتتجاوز حواجز الحدود واللغة، وينشأ عنها آثار نفسية سلبية عميقة مثل مشاهد التعذيب و العنف والتدمير وصور الجرحى من الكبار والصغار وجنازات الموتى .. كما أن استمرار الشعب العراقي لفترة طويلة تحت التهديد والتعرض للضغوط الفردية والجماعية في صورة القهر والظلم الذي يفرضه الاحتلال، وحالة الإحباط العامة وفقدان الأمل مع الوقت في الخروج من الأزمة التي يمثلها الوضع الحالي ..كل ذلك يؤدي إلي ظهور حالات الاضطراب النفسي وتفاقمها ويتبع ذلك مضاعفات وخيمة، وبالرغم من أن أوضاعاً مشابهة قد تحدث في مناطق أخرى من العالم نتيجة للتعرض لكوارث طبيعية مثل الزلازل والفيضانات ونتيجة للحوادث الفردية والجماعية فإن الأطباء النفسيين يلاحظون أن نوع الأزمات التي هي من صنع الإنسان مثل الحروب والقمع والحصار والعقاب الجماعي والتعذيب والقهر تفوق في تأثيرها المدمر على الأفراد والجماعات الأزمات التي تنشأ من ظروف طبيعية لا دخل للإنسان فيها ولا سلطان له عليها.

   وتكون محصلة التعرض لضغوط هائلة نتيجة لأعمال القمع والتهديد والإذلال عن طريق التعذيب وتدمير البيئة ومشاهد القتال والعنف الرهيبة ظهور حالات نفسية شديدة يعاني منها أعداد كبيرة من الناس ، ويطلق علي هذه الحالات في الطب النفسي الحديث تسمية اضطرابات الضغوط التالية للصدمة
PostTraumatic Stress D
isorde
r وتعرف اختصاراً
PTSD
، وهي حالات تنشأ من التعرض لأحداث وصدمات نفسية تمثل خبرات أليمة تفوق الاحتمال وتتضمن تهديداً خطيراً للحياة نتيجة للضرر الذي يلحق بالفرد أو بأسرته أو تدمير منزلة أو ممتلكاته وتمثل حالات الاضطراب النفسي نسبة 25% من الذين يتعرضون لممارسات العنف والضغوط النفسية (أي واحد من كل أربعة)وتحتاج هذه الحالات إلي تدخل علاجي عاجل.

   ومن علامات الجروح النفسية التي يمكن أن يتعرض لها الأفراد والجماعات نتيجة لممارسات العنف والقمع والتهديد حدوث مجموعة من ردود الأفعال نتيجة لتعرض الشخص أو أحد أفراد أسرته أو جيرانه لمواقف ينتج عنها ضغوط نفسية هائلة تصاحب مشاهد القتل والإصابات الجسدية وتدمير المنازل والممتلكات والبيئة المحيطة، ويمثل ذلك صدمة كبيرة خارج نطاق الخبرة الإنسانية العادية، ويؤدي ذلك فيما بعد إلى أعراض الاضطراب النفسي في صورة قلق وتوتر دائم، وتظل ذكريات المواقف الأليمة ماثلة في ذاكرته تقتحم تفكيره في كل وقت بما يجعله يعيش هذه التجربة الأليمة في اليقظة وبعد النوم في صورة كوابيس تعيد مواقف الصدمة، ويتبع ذلك شعور بالإجهاد والألم النفسي والضيق والعزلة واليأس ، ومن ردود الأفعال التشتت الذهني والانتباه الزائد ورد الفعل العصبي لكل شيء يذكر الإنسان بمشاهد الصدمة النفسية الأليمة ويفقد الناس الاستمتاع بالحياة لتحل مشاعر الاكتئاب الجماعي ، وقد لا تظهر هذه الأعراض مباشرة عقب التعرض للصدمة ويتأخر ظهورها لشهور أو سنوات ويكفي أن نعلم أن حالات الاضطراب النفسي لازال يعاني منها جنود حرب فيتنام رغم مرور أكثر من 40 عاماً على تعرضهم لمواقف الرعب أثناء القتال.

   ماذا يحدث في الأرض العراقية  المحتلة ؟
    إن الظروف القاسية والضغوط الهائلة التي يعاني منها الإنسان في العراق  المحتلة والتي تفوق طاقة الاحتمال الإنساني والتي تتمثل في الحرب الفعلية التي تحصد الأرواح وتصيب بالجراح الكبار والصغار، وتتمثل أيضاً في الحرب النفسية التي بدت مظاهرها لكل من يتابع الموقف المتدهور هناك ، ويمكن رصد بعض هذه المظاهر بعين الطب النفسي في هذه النقاط :
- المشاهد التي يتم بثها إعلامياً بصفة يومية حتى صارت مألوفة لكل من يشاهدها وتتخطى حواجز الحدود واللغة مثل أشلاء الموتى والمصابين ..والمحمولين في نعوش يحيط بها المتظاهرون يومياً بما فيها من تعبيرات عن الغضب والحزن والتحدي  •

 

-
المواجهات غير المتكافئة بين شباب أسلحتهم حقيقة يحملونها ويصرون علي تصويبها نحو جنود يحملون أحدث الأسلحة، ونقل ما يحدث في هذه المواجهات عبر الإعلام إلى كل العالم بما لا يحتاج إلي شرح أو ترجمة.
- الآثار النفسية للعدوان والقمع والقهر على الوجوه الباكية لأمهات فقدن الأبناء أو زوجات فقدن شريك الحياة أو أطفال تبدو على ملامحهم آثار المحنة القاسية.

- بث مشاهد تدمير البيئة في الأراضي العراقية مثل القصف وهدم المنازل وقصف النخيل و الأشجار والقرى و المزارع.. وكل هذا لا يمثل فقط خسائر اقتصادية بل صدمات نفسية لا تحتمل لأصحاب هذه الممتلكات وللإنسان في هذه الأماكن،ولكل من يتابع تعبيرات الأسى والحزن علي وجوه الناس هناك .

   وإذا نظرنا إلى نتائج الضغوط والحرب النفسية: فإن المحصلة النهائية لهذه الحرب النفسية - بجانب الحرب الفعلية وحصيلتها من الخسائر في الأرواح من الشهداء والجرحى وما تؤدي إليه من ضغوط نفسية هائلة وخبرات أليمة تفوق طاقة الاحتمال الإنساني -هو مزيد من الإصابات بحالات الاضطراب النفسي التي تؤدي في النهاية إلى الانهيار والإعاقة النفسية لنسبة كبيرة من الناس .
 
    وإنني - كطبيب نفسي عربي وواحد من الملايين الذين تصدم مشاعرهم كل يوم بمشاهد العنف والقمع التي ينقلها الإعلام للعالم - أدعو إلى وقفة إيجابية لمواجهة هذه الحرب النفسية التي يتعرض لها الإنسان في العراق بجانب العنف المباشر الذي يتمثل في القتل والإيذاء البدني والقمع والتدمير .. وهنا نعرض بعض النقاط :
* هناك حاجة ماسة لإظهار التضامن والمواساة مع إخواننا في العراق تحت الاحتلال وتقديم كل أنواع الدعم والمساندة المادية والمعنوية في رسالة واضحة لهم تقول :"لستم وحدكم نحن معكم”، وعلينا أن نمد يد العون عملياً، مع الاهتمام بتضميد الجراح النفسية كأحد الأولويات .
* الرفض والاحتجاج بكل الوسائل على ما يحدث وما يتعرض له الإنسان في العراق المحتلة، ويجب أن نحول الصدمة بما نراه ونسمعه ويهز مشاعرنا إلى انفعالات إيجابية ولا نسمح لأنفسنا أن نتعود علي هذا الواقع مع مرور الوقت .
* نحن هنا إذن أمام ثقافة الاحتلال التي تتمثل في ممارسة العدوان والتعذيب والظلم والقهر وكسر الإرادة وضرب الحائط بكل القيم والأخلاق وعدم الاكتراث بل وربما تعمد نشر المشاهد الأليمة التي تابعها العالم من خلال وسائل الأعلام.. ونحن أيضا أمام ثقافة أخرى هي ثقافة المقاومة والتحدي للاحتلال..وثقافة ثالثة مرفوضة هي ثقافة السلبية والاستسلام والهزيمة.
* "حريتك أثمن من حياتك " .. كانت هذه العبارة شعاراً ضمن مجموعة من العبارات على الغلاف الأخير للكراسات التي يتسلمها الطلبة في مدارسهم للكتابة فيها في سنوات الدراسة من الابتدائي إلى الثانوي ، وهذا يذكره كل من درس في هذه المراحل منذ ما يقرب من نصف قرن ، وفي هذا التوقيت ربما تكون حاجة ملحة إلى إعادة فهم وقراءة هذه العبارة واستلهام مضمونها حتى نتمكن من كسر دائرة اليأس والإحباط والخضوع في مواجهه الأقوياء

 

*
أقترح هنا أن يستمر الإعلام العربي في المحافظة على صور المقاومة حية في الأذهان عن طريق مواصلة وضعها في مقدمة الأولويات .. إن مجرد بث صور التعذيب و الاغتصاب وغيرها من المشاهد يكفي للتعبير عن الوضع بأكمله ويثير مشاعر قوية مضادة للحرب النفسية التي يمارسها العدو .
* لابد أن نصر على التخلص من الخوف من العدو أو الاستسلام لدعايته بأنه القوة الأعلى المسيطرة التي لا تقاوم، فلا أساس لذلك ، والدليل هو تعبيرات الخوف والحذر والذعر التي يمكن لنا أن نقرأها بوضوح في وجوه الجنود وهم يواجهون الشباب الذين يبدون الجرأة والتحدي . ونجد أنه في فكرنا الإسلامي حث على الثبات والصبر في مواجهة مثل هذه المواقف الصعبة ، وفيه أيضاً مفهوم الجسد الواحد الذي يدعو إلى تضامن وتكافل ومساندة غير مشروطة لإخوان لنا في مواجهة العدوان المتمثل في العنف المباشر والحرب النفسية.

   وإنني هنا أتوجه بدعوة - من موقعي كطبيب نفسي عربي - إلى المتخصصين من أطباء النفس المهنيين وإلى المهتمين بالصحة النفسية في كل البلاد العربية إلى المبادرة و التدخل العاجل لتضميد الجراح النفسية لإخواننا في العراق .. فهناك الأطفال والشباب والشيوخ الذين تعرضوا لصدمات نفسية مثل أم فجعت في أبنائها، أو طالب شاهد زميله يصاب برصاصة قاتلة، أو أب فقد ولده أو صور شاهدها الجميع للتعذيب والإذلال والأجساد العارية والانتهاكات الجنسية الأليمة .. ومثل هذه المشاهد ستظل لاشك ماثلة في أذهان الملايين في العالم تحرك مشاعرهم.. وهذه الدعوة يجب أن تتضمن تشكيل فريق يقوم فوراً بالوصول إلى هذه الحالات في أماكنها والبدء في علاج الآثار النفسية التي يعاني منها ضحايا العنف الأمريكي، وهنا نعرض الخطوات العملية التالية :
 1- الهدف من هذه الدعوة إلى فريق للتدخل للعلاج النفسي لضحايا العنف هو السيطرة علي الاضطرابات النفسية المحتملة ومنع الإعاقة المتوقعة التي يمكن أن تظهر آثارها مستقبلاً.
2- أولى الخطوات تحديد حجم مشكلة الآثار النفسية للأزمة التي يتعرض لها الإنسان في العراق عن طريق مسح شامل سريع يتم من خلاله حصر الحالات والوصول إليها.
3- توجد وسائل من العلاج النفسي المركز والمختصر وأساليب لتأهيل ضحايا العنف بمساندتهم للعودة إلى الحياة بصورة طبيعية وتوفير الدعم والمساعدة النفسية للفئات الأكثر تأثراً بالأزمة.
4- يتم العلاج بصورة جماعية نظراً لزيادة أعداد الضحايا ، بمشاركة أكبر عدد من الأطباء النفسيين العرب ، ويمكن تدريب كوادر لمتابعة الحالات في أماكنها لفترة زمنية
تالية كافية، ويتم ذلك في جو علاجي يعيد شعور الارتياح والثقة والأمن.

     وبعد فقد كانت هذه دعوة جادة للتحرك العملي الإيجابي في مواجهة أزمة قومية نرى أن لكل منا دوراً تجاهها حسب موقعه وتخصصه ، وتوجد مراكز متخصصة في الدول الغربية تضم كوادر على أعلى مستوى من التخصص للتدخل أثناء الأزمات للعلاج الطارئ للآثار النفسية للكوارث الجماعية، ونأمل أن يكون هناك تحرك مماثل لتضميد الجراح النفسية لإخواننا في العراق، وأتمنى أن تجد هذه الدعوة صدى لدى الجهات المعنية في مصر والعالم العربي حيث يفترض أن على كل منا واجب وطني جاء وقت القيام به.

    وأخيراً فإن أحداً لا يعلم ما يحمله المستقبل لكن الثبات والصبر وإرادة الحياة والتمسك بالحق والتضحية من أجل المبدأ العادل رغم التعرض للعنف والظلم ونزيف الخسائر والمواقف الصعبة والحرب النفسية .. كل ذلك لابد أن يغير هذا الواقع الأليم الذي يعيشه الإنسان في العراق وفى فلسطين وفى المناطق الأخرى التي يتعرض فيها العرب والمسلمون بصفة خاصة لممارسات غير إنسانية .. ولابد أن تشرق الشمس يوماً على المنطقة بواقع جديد يتم فيه تصحيح هذه الأوضاع، وتعود الطمأنينة والسلام، ونتمنى أن يأتي هذا اليوم قريباً بإذن الله .
  

 

المصدر : www.hayatnafs.com

 

إقرأ 9437 مرات آخر تعديل على الإثنين, 01 شباط/فبراير 2016 23:14
FacebookMySpaceTwitterDiggDeliciousStumbleuponGoogle BookmarksRedditNewsvineTechnoratiLinkedinRSS Feed