وعندما يعرف علماء التصوف ” البدايات “- وهي في التصوف الصحيح الموافق للشرع – الأسس التي يرتاض به السالك إلى الله ولا ينتقل عنها، بل ينتقل بها وتصحبه من مقام لمقام، لا يغفلون في تعريفها عن الإشارة إلى علاقة الإنسان بأخيه الإنسان .
ولعل من أشمل وأدق وأجمل التعبيرات عن البدايات عبارة إمام كبير من أمئة التصوف ومن الراسخين في علم التزكية والمجاهدة وهو شيخ الإسلام الهروي – رحمه الله – حيث يعرف البدايات بأنها:
( إقامة الأمر على مشاهدة الإخلاص .. ومتابعة السنة )
( وتعظيم النهي على مشاهدة الخوف .. ورعاية الحرمة )
( والشفقة على العالم ببذل النصيحة .. وترك الأذية )
والنصيحة في هذه العبارة لا تعني الموعظة ، وإنما تعني سلامة الصدر وعدم الغش، وقصد الخير، والنفع للكافة .
والحج – وقد شرع لإقامة ذكر الله – يؤدي في تجمع يتحد في الزمان والمكان والاتجاه، وحتى الهيئة واللباس، وتتحقق فيه المساواة في أروع صورها حيث لا فرق بين غني وفقير، وحاكم ومحكوم، وعالم وأقل علما.
بل إن المساواة الكاملة هي بداية هذه الشعيرة، قال تعالى ]والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم[.
والنص الصريح لا يحتمل التأويل في أن مسلما من أقصى الغرب في أفريقيا، أو من أقصى الشرق في إندونيسيا حقه في الوصول إلى البيت المعظم والطواف به – كما يعبر المفسرون – مساو تماما لحق ولي من أولياء الله مقيم على العبادة في الحرم يحسب من أجداده أجيالا تمتد إقامتهم في مكة لمدة ألف سنة. وقد حمى هذا المبدأ بالتهديد المروع لمن يحيد عن هذا المبدأ أو يختلف عنه، بدون ضرورة شرعية، ولا تكفي الحاجة – فضلا عن المصلحة – مبيحا للميل عن هذا المبدأ، أو مبررا للإخلال به، ويؤكد ذلك ما ورد في آيات التوبة ]ما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ومالهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون [
الحذر كل الحذر
وهذه مناسبة لتنبيه إخواننا في وزارة الحج – المسؤولين عن وضع تنظيمات الحج والعمرة – إلى الحذر من وضع أي قيد أو عائق أو صعوبة تخل بمبدأ المساواة بين المسلمين في حق الوصول إلى البيت المعظم أو تكون عاملا على صد أي مسلم يرغب في الحج والعمرة، عن المسجد الحرام، وليعلموا أن مجرد المصلحة الخاصة والعامة بل ومجرد الحاجة – لا تكفي مبررا لأي عائق أو قيد على المسلم في الوصول إلى البيت المعظم، بل إن الضرورة الشرعية وحدها هي المبرر للتجاوز عن مبدأ حرية المسلم في الوصول إلى البيت، أو مبدأ المساواة بين المسلمين في هذا الحق، وإن عدم التزام أقصى الحذر في مراعاة هذا الأمر مخوف بأن يجر شر العواقب، لا على خاصة المسؤولين عن التنظيم، بل على البلاد عامة.
ولكن كيف يمكن أن نحقق تعزيز التواصل الإنساني بين الحجاج أثناء موسم الحج؟
كيف يمكن أن نتغلب على عوائق التواصل الإنساني من اختلاف الأجناس واللغات والمذاهب والبيئات المختلفة التي جاء منها الحجاج؟ كيف يمكن التغلب على محدودية الوقت وظروف الانشغال بمناسك الحج؟
يمكن أن يقال كلام كثير في الجواب عن هذه الأسئلة، ويمكن أن تقدم اقتراحات نظرية عديدة تصلح زادا للمتعة العقلية، ولكني أؤمن بالتجربة العملية وبالحلول الناشئة عن النظريات والمتوافقة مع معطيات الواقع.
ولكن هل يوجد – في دنيا الواقع – تجمع مثل تجمع الحج من حيث عدد المجتمعين وتنوع لغاتهم وثقافتهم وظروفهم البيئية؟
وهل من أهداف هذا التجمع – إن وجد – تحقيق التواصل بين أفراده؟ وهل حقق هذا الهدف؟
لحسن الحظ فإن الجواب عن كل هذه الأسئلة بالإيجاب.
فقبل سنوات عقدت الجماعة الإسلامية المشهورة بجماعة التبليغ، اجتماعها السنوي في بنغلاديش، والمعروف أن المشاركين في هذا الاجتماع هم من نوعية الحجاج بكل اعتبار، وعدد المشاركين فيه يزيد على عدد الحجاج – حسب ما يؤكد ذلك كل من حضر هذا التجمع – وقبل سنوات قدر عدد المجتمعين أحد رجال المخابرات الإنجليزية المختصين في الجماعات الإسلامية بأنه يزيد على ثلاثة ملايين وذلك في مقالة نشرتها مجلة ” الإيكوموست ” ( وعادة يتم هذا الاجتماع في مساحة كبيرة من الأرض ولكن ربما لا تزيد على مساحة منى ولمدة أربعة أيام، فينعقد الاجتماع وينفض بكل هدوء وسلام، وبدون صخب أو ضوضاء أو مشاكل بيئية .
ومن المعروف أن التواصل الإنساني من المقاصد الأساسية لتلك الجماعة، وقد نجحت في تحقيقه إلى أقصى حد يتصوره الإنسان، بل ربما كان نجاحها في تحقيق هذا المقصد هو العامل الرئيس في أن تكون أكبر الجماعات الإسلامية وأكثرها تابعا وأبلغها في التأثير على المجتمعات.
ووجود هذا المثال الواقعي يعطي فرصة مثلى لدراسته، واستخلاص الدروس والعبر منه، والانتفاع بنتيجة هذه الدراسة في تطوير الحج لتعزيز التواصل الإنساني بين الحجاج.
ويمكن تعجل ذلك بالقول أن نجاح ذلك التجمع في تحقيق أهدافه، راجع إلى مراعاة أفراده لآداب الإسلام، والتوعية المسبقة لهم بهذه الآداب، وتدربهم على التخلق بها. وبناء التنظيم على أساسها.
إذاً، فإن التوعية الملائمة المسبقة، هي مجرد الأساس الأول الذي ينبغي أن نوجه إليه الجهد، إذا أردنا أن نوجد تغييرا جذريا يؤدي إلى تحقيق الحج لمقاصده ومنها إنجاز وظيفته في مجال التواصل الإنساني المشار إليها آنفا.
ومن الدروس التي ينبغي للمسؤولين في وزارة الحج عن التنظيم الانتفاع بها وأخذها في الاعتبار: الوضع السلوكي التي نجحت تلك الجماعة في تحقيقه، وتدبر أحكام الحج وأعماله يهدي إلى أنه من مقاصد الحج، وأعني بذلك البساطة وعدم التكلف والبعد عن متطلبات الترف، والتدرب على ممارسة لون من التقشف، والتحرر من رتابة الحياة العادية.
ومن الدروس التي يمكن أن تقدمها لنا اجتماعات تلك الجماعة تهيئة أسباب ودواعي التواضع، وقد بلغت الجماعة في ذلك شأوا رائعا، يظهر في تنظيم الخدمات، وتوزيعها بين الأفراد، وفعلي سبيل المثال: يمكن أن ترى رجلا منحنيا على قدر يكفي لإطعام جماعة من الناس مجتهدا في غسله، فلك أن تتوقع أن يكون هذا الرجل شخصا عاديا، ولكن يجب أيضا أن تتوقع أن هذا الرجل ربما كان لواء في الجيش الباكستاني، أو طبيبا كنديا ذا شهرة عالمية، أو رجل أعمال تحسب أصوله التجارية بالملايين، وإذا استحضرنا أن من مقاصد الحج أن يكون دورة تدريبية للتواصل و إدراك الإنسان لحقيقة الفروق الاصطناعية التي وضعها البشر بين البشر، أدركنا أهمية هذا الدرس ومدى فعاليته في تحقيق التواصل الإنساني .
المصدر : www.saaid.net